مريم

 
في قديم الزمان، يوم آمن الشعب الانكليزي بالسيد المسيح في بلاد بريطانيا، وتسمى انكلترا أيضاً، كان فيهم أناس أفاضل ورعون، وفي نفس الوقت أغنياء جداً، وكانوا لا يرغبون بتزويج بناتهم، بل ارسالهن الى أديرة يبنونها بأموالهم، ليترهبن فيها.
   ومن هؤلاء، كان رجل غني محب للفضيلة، وكان له ابنة وحيدة ذات جمال نادر، عمرها اثنتا عشرة سنة، اسمها مريم، وكانت تحلم بأن تصبح راهبة، فسألها أبوها يوماً كي يمتحن عزمها:
ـ كم تمنيت لو رزقني الله ولداً غيرك، كي اندره للسيد المسيح، أما الابن الثاني فأزوجه كي تنمو وتكبر عائلتي، ولكن الله لم يرزقني غيرك، ولست أدري ماذا أفعل يا ابنتي.
فهمست في أذنه:
ـ لا مطمع عندي يا أبي سوى ان يصبح المسيح خطيبي، لأنه أغنى الأغنياء، وحبيب الفقراء ومسعفهم، فلا تحرمني من نعمة الترهب.
   فربّت على كتفها بعد أن استعذب قولها، وقرر ارسالها الى دير العذراء الذي بناه من ماله الخاص، لتتنسك مع غيرها من البنات.
   وبعد سنوات، قرر قائد المدينة ريكاردوس، وضع ابنته اليتيمة من أمها، في ذلك الدير، وكان شريراً ونجساً، فقبلتها الرئيسة بفرح، وطلبت من سائر الأخوات معاملتها بالحسنى، وكانت مريم بينهن، فلاحظ القائد أنها تطيل التأمل بزيه العسكري، فاعتقد أنها معجبة به، وأنها ترغبه، كما هو يرغبها. 
   وعندما رجع الى قصره، أرسل الى الدير من يأتيه بها، فحزنت الرئيسة كثيراً، وقالت للخادم الذي أرسله:
ـ قل لسيدك أن لا يفعل بالدير هذ الفعل الشنيع، إذ عليه ككقائد أن يحمينا، لا أن يعرّض شرف راهباتنا للوساخة.
   فلم يأخذ القائد بكلامها، بل أصر على أن تأتيه مريم الى قصره، لأنها معجبة به كما هو معجب بها، على حد قوله. واذا لم ترسلها الرئيسة سيأتي هو بنفسه ليأخذها، وستحدث في الدير مصيبة كبرى.
   طلبت الرئيسة مريم، وسألتها عن اعجابها بالقائد، وسر تطلّعها الطويل به، متناسية أن أباها أرسلها الى الدير كي تترهب لا كي تتزوج. 
ـ فلماذا ارتكبت تلك المعصية يا ابنتي؟
فأجابتها مريم وهي تبكي:
ـ تطلعت به بعد أن أشفقت عليه بسبب خبثه، والشر الذي يغلّفه أكثر من ملابسه البراقة، ونياشينه الكثيرة المتدلية على صدره. لذلك أرجوك يا رئيستي أن تتركي لي الجواب، ليعرف ذلك المغرور قيمة عفّتي وشرفي ورهبنتي عندي.
   فطلبت منها الرئيسة أن لا تكلمه بفظاظة، مخافة ان يرتكب جريمة في الدير. فوعدتها مريم بأن تكون لطيفة معه، شرط أن ترافقها الى الكنيسة من أجل الصلاة أمام أيقونة مريم العذراء، وطلب شفاعتها.
   وبصوت ملائكي، طلبت مريم من امها مريم أن تنقّي جسدها من كل دنس.
   في تلك الأثناء وصل الخادم لاصطحاب مريم الى قصر القائد، فوقفت بوجهه الرئيسة وقالت له:
ـ أنا لا أرسل راهبتي مع أحد، فما على القائد سوى المجيء بنفسه لاصطحابها. وما عليك إلا أن تسأل الراهبة مريم بنفسك.
   فالتفت الخادم الى مريم وقال:
ـ حين رآك سيدي أعجب بجمال عينيك، ومن يومها فارقه النوم، فإذا لم تذهبي معي، سيأتي بنفسه ليأخذك غصباً عنك، وسيفضحك في كل بلاد انكلترا.
فقالت له:
ـ انتظرني لحظة كي أزور الكنيسة، ومن ثم اعطي سيدك ما قد أعجب به.
   فرح الخادم من جوابها، واعتبر أن المسألة حلّت على خير، وأن سيده سيكافئه متى رأى مريم بصحبته.
   أما مريم فلما دخلت الكنيسة ارتمت تحت أقدام شفيعتها وهي تبكي وتقول:
ـ لقد أحببتُ عينيّ يا سيدتي كي أستمتع أكثر فأكثر برؤية وجهك المقدس، أما وقد أصبحتا عثرة في طريق ترهّبي، لأن القائد الشرير افتتن بهما والتهب بالشوق الشيطاني، لذلك أرجوك يا أم الرحمة أن تساعديني في اقتلاعهما، كي لا أنجس شرفي وعفّتي، فللضرورة أحكام يا شفيعتي، فسامحيني.. سامحيني.
   وبشجاعة لا توصف، اقتلعت عينيها بالسكين، ووضعتهما في وعاء، وصاحت بأعلى صوتها:
ـ تعال ايها الخادم، وخذ لسيدك هاتين العينين اللتين افتتن بهما. فأنا لست بحاجة اليهما بعد اليوم.
   حمل الخادم العينين وهو يرتجف، ورماهما أمام قائده، وأخبره بما فعلت مريم. وللحال تغيّر القائد من شرير الى ملاك، وحلت النعمة الالهية عليه، وتملكه ندم قوي مفعم بإعجاب شديد بتلك الفتاة التي احتقرت جمالها الجسدي كي لا تشوه جمالها الروحي، فذهب الى الدير وهو يحمل عينيّ مريم، ومن دون أن يتكلّم مع أحد، دخل الكنيسة وارتمى تحت أيقونة أمنا مريم، بعد أن وضع العينين تحت الأيقونة، وراح يبكي ويسألها السماح والغفران. وكانت مريم العمياء تستمع الى كل كلمة ينطق بها.
   فجأة، دعا الرئيسة وباقي الراهبات وأمرهن أن يركعن ويطلبن بايمان حار من مريم العذراء ومن ابنها يسوع المسيح إعادة عيني مريم الى محجريهما.
   ولكي يشجعهن على الصلاة بحرارة، خلع عنه لباس الأبهة وذر الرماد على رأسه، وراح يبكي ويقول:
ـ أنا لا أستحق التطلع بأيقونتك المقدسة، فلقد دنست نفسي كثيراً، ولم أترك معصية الا ارتكبتها، ولكن السيد المسيح الذي تجسد منك لم يرفض اللصوص والعشارين التائبين، فساعديني يا ام الرحمة كي أغسل نفسي من أوساخ الماضي، واتخلص من أسر الشيطان الخبيث. أنت القديرة على كل شيء.
   وفي منتصف الليل أضاء نور غريب مذبح الكنيسة، وسمع صوت يقول:
ـ خذي يا مريم عينيك من نعمة ابني يسوع.
   وللحال عادت عينا مريم كما كانتا من قبل، وأول ما رأت كانت أمنا العذراء واقفة في باب الكنيسة، فصاحت مريم:
ـ ما أعظم اسمك، وأمجد نعمتك، وأكثر عجائبك.
   أما القائد والراهبات فلما سمعوا ذلك الصوت نهضوا من سجودهم، ولكنهم لم يشاهدوا العذراء كما فعلت مريم، بل تطلعوا بعينيها، وقدموا الشكر والمديح لأم الاله.
   وبعد وفاة رئيسة الدير، انتدبتها الراهبات رئيسة جديدة عليهن، فرعتهن، ودبّربتهن بحكمتها وقداستها، الى يوم انتقالها الى الملكوت السماوي.
**