امرأة شريفة


 كان لأحد السلاطين الرومانيين امرأة شريفة الحسب والنسب، طاهرة، كريمة، صالحة ومتعبدة للسيدة العذراء. 
   وذات يوم قرر زوجها السلطان زيارة قبر المسيح وباقي الأماكن المقدسة، فودّع زوحته العفيفة، وأمر أخاه بتنفيذ كل رغباتها لحين عودته من السفر.
   وبعد أيام معدودة، اشتعل الأخ بحبها، وراح يتقرّب منها، ويبوح لها برغبته الجنسية الشيطانية، ولكنها كانت تصده بقوة، وهو يلح عليها بالمجامعة دون أن يردعه ضمير، الى ان ضجرت منه وقررت أن تهمد ناره المشتعلة، فطلبت منه أن يلاقيها في مكان ما ستحدده له لاحقاً، كي لا يراهما أحد.
   وللحال، طلبت من خدّامها أن يبنوا برجاً حصيناً عالياً، دون أن تذكر لهم سبب بنائه. وفي اليوم المحدد اصطحبت سلفها الى البرج، وطلبت منه أن يدخل قبلها، فشكرها على ذلك، ولعابه يسيل من شدة الفرح. ولكنه ما أن دخل حتى أغلقت الباب عليه، ورجعت الى قصرها، كي تدير شؤون مملكتها بغياب زوجها الحبيب.
   وما أن بشّر أحد الجنود بوصول زوجها الى مشارف المدينة، حتى طلبت من الجميع ملاقاته بالزغاريد والموسيقى، ولكي لا تحرم سلفها من ملاقاة أخيه، فتحت باب البرج وأطلقت سراحه.
   وقفت الزوجة الطاهرة على باب القصر استعداداً لملاقاة زوجها بعد غياب طويل، دون أن تعلم أن سلفها السافل سوف يخبر زوجها قصة مغايرة تماماً لما حصل معهما، فلقد أخبره أن زوجته طلبت منه أن يضاجعها عدة مرات، وأنه رفض ذلك بسبب اللحم والدم الذي بينه وبين أخيه السلطان، وطلب منه التخلص منها، لأن كرسي الملك لا يليق بقحبة، على حد تعبيره، ولم ينتهِ من كلامه الكاذب، إلا عندما وصل السلطان الى حيث تقف زوجته القديسة، وبدلاً من ان يقبلها، صفعها صفعة قوية رمتها أرضاً، وأمر خادمين أن ينزعا عنها ملابسها الملوكية، وأن ويرمياها في احدى الجزر البعيدة، الخالية إلا من الحيوانات المفترسة.
   هناك، لعب الشيطان بعقلي الخادمين، وقالا لبعضهما البعض، لماذا لا نغتصبها نحن، ونتلذذ بجمالها الفتان، وهل ستأتينا فرصة ثانية كي نضاجع ملكة؟
   علمت المسكينة بما يضمران لها من شر، فصاحت بأعلى صوتها:
ـ أيتها العذراء مريم، البريئة من دنس الخطيئة الأصلية، لا تسمحي بتدنيس شرفي. يا أم الرحمة إرحميني. يا سيدة السماء والأرض، أنقذيني.
   ولشدة ما كان صوتها عالياً سمعها أحد التجار الميسورين المارين صدفة من هناك، فأسرع لإنقاذها، فما كان منها إلا أن ارتمت أمامه قائلة:
ـ أشكرك يا سيدي، واعدك بأن أكون لك خادمة مطيعة ما حييت.
   وعندما وصل التاجر الى بيته، أخبر زوجته بما حصل له مع تلك المرأة، وأنه قرر أن يوكل اليها خدمة طفله الصغير، كي تتفرغ هي الى أعمال أخرى، فوافقت دون تردد. ولكن الشيطان الرجيم لا يترك الناس الصالحين، فأوقع الخادمة المسكينة بما وقعت به في مملكة زوجها، إذ تاه في غرامها أخو التاجر، وراح يتودد لها دون فائدة، وعندما يئس من صدها له، قرر التخلص منها، فدخل ليلاً الى غرفتها، وذبح ابن أخيه النائم في حضنها، وليس هذا فحسب بل راح يشتمها ويتهمها بذبح أحب الناس الى قلبه، ابن أخيه الطفل:
ـ أيتها السافلة المجرمة، لقد قدم لك أخي المأوى والمأكل، فكيف طاوعك ضميرك على قتل طفله البريء. والله والله سأذبحك كما ذبحته، إن لم يذبحك أخي قبلي.
   ولكن الأخ الوالد لم يأخذ بكلام أخيه المجرم، بل قال:
ـ كلا لن نقتلها، لأن الله لا يسمح بقتل أحد، أليس هو القائل: اتركوا يترك لكم. لذلك قررت أن أرسلها مع أحد البحارة الى بلاد بعيدة، والله وحده هو الذي يتدبر أمرها.
   وما أن ابتعدت عن الشاطىء، حتى بدأت تصرخ بأعلى صوتها:
ـ أيتها القديسة الجميلة، يا سيدتي وشفيعتي، يا أم يسوع المسيح، لماذا تعذبينني هكذا، ساعديني أرجوك، فليس لي أحد سواك.
   وما أن سمع البحّار صرختها، حتى أنزلها على صخرة مرتفعة مشرفة على شاطىء البحر، وقال لها وهو يركب سفينته:
ـ اذا كنت حقاً متعبدة لمريم العذراء فلن تتركك، وإلا ستموتين جوعاً فوق هذه الصخرة.
   ولكثرة بكائها وتضرعها، أشفقت عليها السيدة العذراء، وظهرت لها وهي تقول:
ـ ابتهجي يا ابنتي وافرحي، فلن يهينك أحد بعد اليوم، فلقد حافظت على طهارتك ببطولة نادرة، واحتملت المصائب دون أن يتزعزع ايمانك بربك، فانهضي، وخذي كمية من الحشائش التي تحت رأسك، واشفي بها المرضى.
   وما هي الا دقائق حتى مرت من قربها سفينة، كأنها مرسلة لخلاصها، فحملها البحارة معهم، وأوصلوها الى ميناء احدى المدن. هناك التقت برجل أبرص يهرب منه المارة، فاقتربت منه، وسقته من زوم تلك الحشائش، فشفي من برصه حالاً، وراح يرقص ويزغرد فرحاً، فتعجب الحاضرون وراحوا يخبرون بما فعلت، وانها تشفي المرضى باسم يسوع المسيح، فوصل خبرها الى مدينة ذلك التاجر الذي اتهمها بقتل طفله، فأرسل اليها كي تأتي وتنقذ أخاه الشرير من مرضه الشديد، فوافقت، شرط أن يعترف المريض بكافة خطاياه المميتة، ولكن الأخ القاتل رغم اعترافه بخطاياه الكثيرة، أخفى عنها وعن الموجودين، خطيئة ذبح ابن أخيه، فما كان منها الا أن حملت حشائشها وهمت بمغادرة الغرفة، وهي تقول:
ـ هناك خطيئة مميتة لم يعترف بها، فكيف لي أن أشفيه؟
   فطالبه كل من حوله بالاعتراف بها كي يبرأ من سقمه، فقال:
ـ أنا من ذبح ابنك يا أخي في حضن تلك الخادمة الفاضلة، لأنها رفضت أن تمارس الجنس معي، فيا ليتني ألتقيها مرة ثانية لأقبل رجليها وأطلب منها المغفرة.
   فصاح أخوه، والعرق البارد يتصبب من جبينه:
ـ لست متأسفاً على خسارة ابني قدر تأسفي على خسارة تلك المرأة الشريفة التي كانت تخدمنا بإخلاص وتقوى.
   فقالت له المرأة:
ـ لا تتأسّف يا سيدي ولا تحزن البتة. أنا هي تلك المرأة.
   وللحال برأ الأخ الشرير من مرضه، وطلب منها أن ترضاه زوجاً لها، ولكنها رفضت، وسافرت الى مدينة روما، حيث شفي على يدها المئات من المرضى. ولكي يكمل الله عجائبه، مرض أخو السلطان "زوجها" مرضاً لا شفاء له، فطلبوا منها أن تشفيه من مرضه، فوافقت، شرط أن يعترف بخطاياه المميتة كاملة. فأبى أن يعترف بما فعله من رذيلة مع امرأة أخيه السلطان، ولكنه، وبناء على الحاح الجميع، أعترف بما فعله مع امرأة أخيه، وأنها أشرف امرأة على وجه الأرض، وأنها قديسة في زي امرأة.
   وما أن سمع أخوه اعترافه حتى راح يبكي ويصيح:
ـ أين أنت يا حبيبة عمري، وتاج رأسي، وفرحة بيتي، فلقد ظلمتك حين صدّقت ما قيل لي عنك، فكيف سيسامحني الله.. وكيف سأستردك لأسترد سعادتي، والله والله لن يحلو لي عيش بعد اليوم، وسأطلب الموت من ملك الموت.
   فما كان من زوجته إلا أن قالت:
ـ ولكن زوجتك التي كانت تحبك لا تريدك أن تموت.
ـ وكيف لي أن أحيا بدونها.. انها حياتي التي ضاعت.
ـ افتح عينيك جيداً وستراها أمامك.
   عندئذ أدرك أن المرأة التي تكلّمه هي زوجته، فارتمى عند رجليها وطلب منها السماح، وأمر أن تنحر الأضاحي احتفاء بعودة الملكة الى عرشها.
   قبـّلت الملكة رأس زوجها وهمست في أذنه:
ـ ألم تسمع ما قلت لك سابقاً: زوجتك التي كانت تحبك.. أما الآن فحبي الأبدي سيكون لرجل واحد اسمه يسوع المسيح.. فاسمح لي أن أترهب، وأخدم دير أمي العذراء ما تبقى لي من عمر.
**